💠 المنبر الحر – بيروت | بقلم هنري زغيب
من نفَق العتمة الذي نعبُرُه في هذه الأَيام، متهاوين بين الخوف والقلق مما يجري، أَو قد يجري، ومتى يجري، وكيف يجري، وصَلَتْني رسالة “وَاتْسْآپـيـة” من صديقٍ هاجرَ إِلى ولايةٍ أَميركية هانئةٍ يرتَع فيها بالسكينة والهدوء، علَّق على قولي (في مقال سابق) “إِنني أَرنو إِلى جيلٍ لبناني جديدٍ شافٍ من أَورام السياسيين، مُهَيَّإٍ لِحُكْم لبنان برؤْيةٍ جديدةٍ غيرِ مستزلمةٍ لأَحدٍ من بيت بو سياسة. وعندئذٍ هنيئًا لنا بوطنٍ ننحني أَمامَ عَلَمه المقدَّس، ونَبُوسُ أَرزتَه الصامدةَ في التاريخ على جبين الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ”.
تناولَ هذا الصديقُ كلامي أَعلاه وعلَّقَ أَنْ ليس مقتنِعًا بـ”جيلٍ لبنانيٍّ جديدٍ يولد من خارج أَحزابٍ وأَوساطٍ سياسيةٍ أَخذَت لبنان إِلى الهاوية”. وأَردف أَنْ “يكفينا الترقيعُ خلال مئةِ سنةٍ من التجارب على شعبٍ لبنانيٍّ ممسوكٍ بخناقه لا يُنتِج إِلَّا جيلًا جديدًا ممسوكًا بخناقه هو الآخر”.
لا أَلوم صديقيَ المتشائم اليائس الغاضب. ففي “جوقة” السياسيين عندنا مَن لا تنطبق عليهم، في أَفضل الأَحوال، إِلَّا صفاتُ العهْر والوقاحة والدجَل، واغتصابِ أَموال الخزينة، وإِفقارِ الدولة بامتصاص أَموالها، وحرمان الشعب من ودائعه.
مع ذلك لا أَقع في اليأْس ولا في التشاؤُم، ولا ينقصُني الغضبُ لأَلعنَ كلَّ مَن في المسؤُولية أَودى بشعبنا إِلى الفاجعة. وسأَظلُّ أَرى، بين كثافة الغيوم السياسية السُود، خيطًا أَبيضَ يُطلُّ، ساحبًا معه غيومًا بيضًا تفتتحُ عهدًا جديدًا للبنان، كما يحصل عادةً في التاريخ لـدُوَلٍ كانت انهارَت ثم جاء من نَهَضَ بها من الدَمار إِلى العمار.
ليس طوباويًّا عاطفيًّا رومَنْسيًا ما أَقول، لأَن شعبَنا أَثبَتَ عبْر التاريخ صمودًا احتملَ طويلًا ثم انفجرَ وفجَّر ما كان ومَن كان. وإِنني مؤْمنٌ بأَنَّ في صُفُوف شعبنا طاقاتٍ موهوبةً جبَّارةً جديرةً بِتَوَلِّي الحُكْم وطَرْدِ يوضاسييه الخَوَنَة وإِنقاذِ لبنان.
في هذا السياق، وصَلَني قبل أَيامٍ مقالٌ من الأُردنِّ صدَر نهار الثلثاء 6 آب الحالي في جريدة “الرأْي” الأُردنية، عنوانُهُ “لبنان”، كتبَهُ عبدالهادي راجي المجالي، جاء فيه أَنَّ “فيروز تَزرعُ الأَرزَ في قلوب الناس، وتَسقي البحر من أَلحان الأَخوين رحباني… وشعبُ لبنان جعَلَ بحرَ بيروت يعطَش فسقاهُ من صوت فيروز فارتوى”. وجاء أَيضًا أَنَّ “جنسيةَ اللبناني هي في كونِهِ عاشقًا يختصر التاريخ والحكايا”، وأَنَّ “بِكْلة بنات الأَشرفية على جدائلهنَّ، أَقوى من مقْلاع داوُد والقبَّة الحديدية لأَنَّ تلك البِكْلة تضمُّ الشَعر الذي اغتَسلَ بكلماتِ جبران وقصائدِ سعيد عقل”. وكتب الكثيرَ غيرها عبدُالهادي راجي، ثم ختَم مُعلنًا: “أَنا ذاهبٌ إِلى بيروت كي تُداويَ الروشةُ عثراتِ روحي وتعَبَ قلبيَ الـمُعَنَّى… عاشت بيروت، ولْيعطَشِ البحر، لأَنَّ لبنان سيبقى هو الأَقوى”.
خضَّني هذا المقال… طلبتُ من السفير اللبناني في عَمَّان الصديق يوسف رَجِّي رقمَ هذا الكاتبِ الأُردنيِّ النبيل فوافاني به. اتصلتُ بالكاتب لأَكتشفَ أَنه لا يعرف لبنان ولم يَزُر بيروت، إِنما كَتَبَ ما كَتَبَ لإِيمانه بما قَرَأَ ويعرفُ عن صلابة شعبِ لبنان وقُدْرته على النهوض… وإِذا كاتبٌ غيرُ لبنانيٍّ يؤْمن بما في شعبنا من قُدْرة وصلابة، فلا أَقلَّ من أَنْ يكونَ إِيماني، أَنا اللبناني، بما في بعض شعبنا من قوَّةٍ جبارةٍ في إِرادة لبنانيين أَنقياء سيتغلَّبون على البعض الآخر من مستسلمين مستزلمين خانعين منقادين عُميانيًّا أَغناميًا إِلى زعماء الإِقطاع السياسي والحزبي والطائفي، فيستفيقون ويخاصرون ذاك البعضَ الأَول من الأَنقياء، لإِطاحة اليوضاسيين النَيرونيين. عندئذٍ لا يعودُ لبنانُ فندقًا نُغادره إِذا أَزعجَنا أَمرٌ فيه فنحزمُ حقائبَنا ونمشي إِلى فندق آخر… إِنَّ لبنانَ هُويتُنا وانتماؤُنا، ولن نتخلَّى عن هُويتِنا بانتمائنا إِلى أَوطانٍ لِلآخرين نظلُّ فيها غرباءَ ولو حملْنا منها جوازَ سفَرٍ لن يمثِّلَنا لأَنه يحمل… هُويةَ الآخرين.