ميتا تطلق العنان لحرية التعبير… هل تكون حقوق الإنسان الضحية؟
تخاطر مجموعة ميتا بإلحاق الضرر بالشعوب التي تعاني أصلا من التهميش، بتخلّيها عن تدقيق المعلومات، وتخفيف سياساتها الخاصة بمراقبة محتوى المنشورات في الولايات المتحدة، كما فعلت في الماضي. وقد قررت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الوقوف لها بالمرصاد

المنبر الحر – قال مارك زوكربيرغ، رئيس شركة ميتا (Meta)، في فيديو نُشر في شهر يناير الماضي: “لقد حان الوقت للعودة إلى جذورنا في مجال حرية التعبير”.
واستغل ثالث أغنى رجل في العالم حينها، تنصيب الرئيس دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، للإعلان عن مجموعة من المبادرات لمواجهة “الرقابة”، خصوصًا على منصتي فيسبوك وإنستغرام. وأشار إلى سنوات من “الضغط الذي تعرضت له من الحكومات ووسائل الإعلام التقليدية”، واعتبر ذلك بداية “عصر جديد” يمثل “منعرجا ثقافياً”.

وتنحصر هذه التغييرات في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حدّ الساعة. لكنها تثير ردود فعل دولية قويّة، لاسيما من قبل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي عبّرت عن خوفها مما قد ينجرّ عنها من عواقب وخيمة على الفئات السكانية الهشّة.
وأوضح مارك زوكربيرغ أن شركته سوف “تتخلّص” من مدققّي المعلومات ومدقّقاتها، من مؤسسات إعلامية مُعترف بها، مثل وكالة الأنباء الفرنسية، التي يعتبرها “متحيّزة كثيراً”. وسيُستبدل هؤلاء بنظام “تقييم الأعضاء المشاركين” مماثل لنظام منصّة X، التي يديرها إيلون ماسك، رجل الأعمال المقرّب من دونالد ترامب والمؤيّد لحرية التعبير المطلقة. ويتولّى الجمهور المستخدم للمنصّات بنفسه، في هذا النظام، وضع المنشورات المثيرة للجدال في سياقها.
وستغيّر الشركة التي مقرها الرئيسي في كاليفورنيا أيضاً الطريقة التي تدير بها المحتوى على منصاتها. ومن الآن فصاعدًا، ستُزال المنشورات ”غير القانونية“ أو التي تشكل ”انتهاكات خطيرة“ لسياسات المجموعة المرتبطة تلقائيا، على سبيل المثال، بالإرهاب أو استغلال الأطفال. وسيتعين الإبلاغ عن الانتهاكات الأخرى من قبل مستخدمي الإنترنت ومستخدماتها، في حين ستُسقط بعض القيود، مثل تلك المتعلقة بالهجرة أو الجنس، لمجرد كونها “منفصلة عن الخطاب السائد”.
مخاطر حقيقية
وتقول ديبورا براون، نائبة مدير قسم التكنولوجيا وحقوق الإنسان في هيومن رايتس ووتش، المنظمة غير الحكومية ومقرّها في نيويورك: “هذا قرار غير مدروس تماماً. وأنا قلقة جداً من آثار هذا البرنامج على حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. إذ نعلم أن الأخبار المضلّلة يمكن أن تحرّض على العنف، والكراهية، وحتى الإبادة الجماعية.”
ويُعدّ التأثير الذي تمارسه المنصّات التابعة لمجموعة ميتا، التي تضم فيسبوك، وإنستغرام، وواتساب، وثريدز، تأثيرا هائلا. ووفقاً للشركة، يتصل ما يقارب 4 مليارات شخص، من رجال ونساء، بإحدى خدماتها مرة واحدة في الشهر، على الأقلّ، ما يعادل نصف سكان الكوكب.
ومع ذلك، فقد سلطت التحقيقات التي أجرتها الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية الدولية، والحكومات، الضوء على دور فيسبوك في نشر المعلومات المضلّلة وخطاب الكراهية، لا سيما خلال الانتخابات الأمريكية لعام 2016، وجائحة كوفيد-19.
وشكّلت أزمة ميانمار في عام 2017، أبرز مثال على ذلك. فقد مثّل فيسبوك المصدر الإخباري الوحيد بالنسبة للكثير من مواطني هذا البلد ومواطناته؛ فاستخدم بكثافة في التحريض على العنف ضد الروهينغا. ووصف محققّون من الأمم المتحدة الاضطهاد الذي تعرّضت له هذه الأقلية المسلمة من قبل الجيش، بالإبادة الجماعية. واعترفت شركة ميتا نفسها بارتكابها أخطاء بخصوص تلك الأحداث.
وتستطرد ديبورا براون قائلة: “لا يُعتبر إلغاء الخطاب الذي لا يمتثل لمعايير حرية التعبير رقابة”، مُعربة في نفس الوقت عن مخاوفها من انعدام الشفافية في ما سيترتّب عن سياسة المجموعة الجديدة من آثار على انتشار خطاب الكراهية، وغياب خطة مفصّلة عن الطريقة التي ستدير بها ميتا المخاطر.

أصوات الأقليات معرّضة لعزلة أكبر
وتخشى ستيفانيا دي ستيفانو، الباحثة في معهد جنيف للدراسات العليا، والخبيرة في مجال حرية التعبير في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، من أن “قرار ميتا سيجعل منصّاتها خطِرة على الكثير من الناس”.
وبعد تعيين جويل كابلان، المقرّب من الحزب الجمهوري، رئيسًا لسياسة مراقبة المحتوى في مطلع شهر يناير، غيّرت المجموعة قواعدها منذ السابع من نفس الشهر بخصوص “خطاب الكراهية”، ليتحوّل إلى “محتوى مشحون بالكراهية”.
وتشير الباحثة إلى أن الأحكام الجديدة، التي تتسم بمزيد من الغموض، تعني أنه “إذا احتوى ’الخطاب السائد‘ على إهانات موجهة لفئات معينة من الناس، رجالًا أو نساء، فستتساهل ميتا مع ذلك على منصاتها. وهذا يعني أنه لن تكون هناك حماية للفئات المهمشة”. ونجد بين هذه الفئات أفراد مجتمع الميم، والمهاجرين، والمهاجرات، واللاجئين واللاجئات.
استئناف الحوار
وتسعى الأمم المتحدة منذ سنوات لتوعية عمالقة شبكات التواصل الاجتماعي بمسؤولياتهم في ما يتعلق بالمحتوى المنشور. وتُبذل مجهودات في إطار برنامج “بي تك” (B-Tech)، الذي يشرف عليه مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بجنيف.
ويقول سكوت كامبل، رئيس فريق حقوق الإنسان والتكنولوجيا الرقمية: “اعتدنا في وسطنا، للأسف، على حركات المد والجزر. لقد استثمرت شركة ميتا الكثير من الموارد في الدراسة، والبحث في مسؤولياتها في مجال حقوق الإنسان، مع إحراز تقدّم ملموس. إلاّ أننا على قلقٍ كبير من قرارها الأخير”.
وأطلقت ميتا نظامها لتدقيق المعلومات في عام 2016، جرّاء فضائح الأخبار المضللّة التي كانت المجموعة تواجهها. وأنشأت بعد ذلك، مجلس مراقبة (أوفرسايت بورد (Oversight Board) لمراجعة القرارات الخاصة بمراقبة المحتوى على منصات الشركة بشكل مستقل، والذي أصدر أيضاً في تلك الفترة تقريرًا عن حقوق الإنسان.
ويضيف سكوت كامبل: “نهجُنا هو مواصلة الحوار”، مشيراً إلى عقد فريقه لقاءً مع ميتا منذ 7 يناير، أعرب خلاله عن مخاوفه “العميقة”.
خلاف فيسبوك ضد بروكسل
وبما أن الإطار الدولي لحقوق الإنسان ليس ملزمًا للشركات، فإنه يترك أمر مسؤولية سنّ التشريعات للدول والحكومات. وهنا، يوضّح سكوت كومبل من مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قائلا: “ندعو الحكومات إلى سن قوانين تتماشى مع التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان. لكن ليست هذه مهمة سهلة لأن القوانين تسمح للجميع بالمشاركة في أمان، دون إقصاء الآراء التي توصف بالشنيعة، ولكنها قانونية”.
وتعدّ أوروبا رائدة في هذا المجال، خاصة بفضل قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي، الذي تمت المصادقة عليه عام 2022، ويشترط على منصات التواصل الاجتماعي مكافحة الأخبار المضللة والمحتوى غير القانوني.

ويرى جيروم دوبيري، مدير مركز التكنولوجيا في معهد جنيف للدراسات العليا، أن “قرار رئيس ميتا، قرار سياسي قبل كل شيء. إنه اتفاق ضمني مع إدارة ترامب على اعتماد نوع من “التساهل” في مجال مراقبة المحتوى. وفي مقابل ذلك، سيحارب الرئيس الأمريكي أيّ شكل من أشكال الضبط الآتية من أوروبا”.
ويعدّ برنامج ميتا لتدقيق المعلومات، الذي سيتواصل العمل به خارج الولايات المتحدة، مكلّفا بالنسبة إلى الشركة. لذلك، قد تلجأ إلى توحيد ممارساتها على المستوى العالمي سعياً لتوفير مزيد من الإنفاق. لكن في هذه الحالة، قد تصطدم المجموعة بالحدود التي رسمها الإطار الأوروبي، الذي ينصّ على غرامات باهظة في حالة عدم الامتثال.
وتشير ستيفانيا دي ستيفانو إلى أن “النتائج ستعتمد على ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيفرض لوائحه بصرامة، أو سيتبنى نهجاً أكثر مرونة”. ومن جهة أخرى، وفي ظل التوترات التي تسود المشهد السياسي في أوروبا، ومع وجود رئيس أمريكي يميل إلى حماية الاقتصاد ويتسم بالتقلب، لا يمكن الجزم بقرار الدول الأوروبية الدخول في صراع مع إحدى المؤسسات الوازنة في الاقتصاد الأمريكي.