كامل العدد … كوميديا بنكهة الواقع

المنبر الحر – بقلم الدكتورة “أمانى فاروق”
في حياتنا اليومية، نعيش بين مشاهد متناقضة، نضحك بينما تخفي أعيننا قلقًا دفينًا، ونتحدث عن الحب بينما ينهش الخوف قلوبنا، ونجتمع كأسرة بينما تفصل بيننا شاشات صغيرة تسحب أبناءنا إلى عوالم بعيدة. لكن ماذا لو جاء الفن ليعكس كل هذه المشاعر في صورة كوميدية خفيفة، تجعلك تضحك، ثم في لحظة صمت، تدرك أنك كنت تضحك على واقعك؟ هذا ما فعله مسلسل “كامل العدد”، حيث غلّف قضاياه العميقة بمزيج من الطرافة والمرح، فجاء التأثير مضاعفًا، لأن الضحك حين يكون بوابةً للحقيقة، يصبح أكثر وقعًا من أي حديث جاد.
الأسرة، تلك الكلمة التي تحمل في طياتها الحب والاحتواء، لكنها أيضًا تحمل التعقيد، سوء الفهم، والصراعات التي لا تنتهي. في المسلسل، لم يكن الأمر مجرد استعراض لحياة أم عصرية تحاول التوفيق بين عملها وأسرتها، بل كان نافذةً تُفتح على أزمات واقعية يعيشها كل بيت. هناك أبناء لا يفهمون لماذا تخشى الأمهات عليهم من كل شيء، وأمهات يشعرن أن أبناءهن ينجرفون إلى عالم لا يعرفون كيف يحمونهم منه. وبين هذا وذاك، هناك أب غائب يعود بعد سنوات، لكنه لا يعود حقًا، لأن الغياب ليس مجرد بُعد مكاني، بل فجوة نفسية وزمنية لا يمكن ردمها بسهولة.
أحد أكثر المواضيع تأثيرًا في المسلسل كان تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب، وهو موضوع قد يبدو مستهلكًا، لكنه هنا قُدِّم بذكاء، حيث لم يكن مجرد تحذير نمطي من مخاطر الإنترنت، بل عرض المشاهد كيف يُمكن للابنة أن تجد في “تيك توك” عالمًا ساحرًا، مليئًا بالأضواء والشهرة، بينما تراه الأم بوابةً لمخاطر لا حصر لها. بين فيديو مرح وآخر، كانت الفجوة بين الأجيال تكبر، وكانت الأسرة تواجه خطرًا جديدًا، لا يأتي من الخارج، بل من شاشة صغيرة تسكن جيوب الجميع.
وبينما كانت الابنة تلهث وراء الشهرة الرقمية، كان الابن يركض وراء حلم الاحتراف الكروي في الخارج. أحلام الشباب لا تتوقف، لكن ما لا يدركونه أحيانًا أن الحلم قد يكون فخًا إذا لم يكن على أساس قوي. رحلة الاحتراف لم تكن مجرد فرصة ذهبية، بل كانت اختبارًا لقيم الشاب، حين يجد نفسه في بيئة مختلفة، بلا رقيب، بلا أم تنصحه، وبلا أب يُعيده إلى الطريق الصحيح. هنا، تجلت المعاناة الحقيقية لأي أم تودع ابنها إلى عالم لا تعرف قوانينه، لكنها تأمل فقط أن يعود كما كان، أو على الأقل، لا يعود شخصًا آخر لا تعرفه.
ثم تأتي تلك اللحظة التي هزت قلوب المشاهدين، عودة الأب الغائب. تلك اللحظة التي تختلط فيها المشاعر، بين فرحة اللقاء ووجع الفراق الذي طال لسنوات. كيف يمكن لشخص غاب أن يعود ويجد مكانه كما كان؟ كيف يمكن للابنة أن تنظر إلى والدها دون أن ترى في وجهه كل السنوات التي عاشتها بدونه؟ كانت هذه واحدة من أقوى لحظات المسلسل، حيث تجلت الحقيقة المرة: بعض الغيابات لا يُعوَّض، وبعض الجراح لا تلتئم بالعودة فقط.
لكن وسط كل هذه الدراما، كان هناك عنصر سحري جعل المسلسل مختلفًا: الكوميديا. ليس الضحك هنا مجرد وسيلة للترفيه، بل كان الجسر الذي أوصل القضايا إلى القلوب والعقول. فحين نضحك، نحن لا ندافع عن أنفسنا، بل نتقبل الحقيقة بشكل أعمق، وحين نجد أنفسنا نضحك على مشاهد تعكس واقعنا، ندرك أن الحلول لا تأتي أبدًا من التذمر، بل من فهم المشكلة بروح خفيفة، ثم العمل على إصلاحها.
في النهاية، “كامل العدد” لم يكن مجرد مسلسل، بل كان مرآة وضعتها الدراما أمام الأسر، لتُريهم كيف يعيشون، كيف يضحكون، وكيف يضيعون عن بعضهم دون أن يدركوا. وربما، حين ينتهي الضحك، يبدأ التفكير: كيف نحمي أسرنا في زمن تتغير فيه القيم أسرع مما نستطيع احتواءه؟